نص الاستماع : للصف التاسع عاشقا قرطبة
قيل : "إن الحب شعلة مقدسة تطهّر بنارها , وتهدي بنارها , وأنا أقول : إن الحب هو الجناح الذي وهبه الله للإنسان ليستطيع به أن يدنو منه "
لقد عرفت ولادة ابن زيدون في فترة توليه منصب الوزارة يوم كانت كوكب المجتمع القرطبيّ , وهي في أوج تألقها وشرخ شبابها , وكان ابن زيدون يومئذٍ شاباً دون الثلاثين إذ دعاه أصدقاؤه إلى ندوتها , فاستقبلته أحسن استقبال , ووضعته في مكان الصدارة لما كان له من علو شأن في الأدب والسياسة .
كان شاعرنا عزباً كما نفهم من رسالته الهزلية , وكان رجلاً وسيم الطلعة حلو الحديث أنيقاً شجاعاً متدفق الحيوية , فأعجبت به ولادة إعجاباً كبيراً , وآثرته على سائر رواد ندوتها , أما هو فقد وجد فيها جمالاً صارخاً , وأنوثة جذابة , وتجسيداً للأدب الرفيع والفن الأصيل , فأحبها حبّاً جمّاً ما برح أن عصف في قلبها الذي لم يكن قد رفّ لأحد قبله , والحق أن ولادة امتلأت إعجاباً به في بادئ الأمر ثم تحول الإعجاب إلى ميل شديد ما لبث أن أصبح حبّاً حبّاً كبيراً , بل هوى جامحاً , وما هي إلا فترة وجيزة حتى أصبح الشاعران العاشقان حديث الناس مما جلب لهما الألم .
وكان لولادة عشاق كثر في مقدمتهم منافساه في حبها , الوزير أبو عامر بن عبدوس , وأبو عبدالله بن القلاس .
وقد عُمّر حبهما الكبير ثلاثين عاماً , ولعل ما قوّى تلك العاطفة الجامحة بينهما , وغذاها الحرمان الذي منيا به من جهة , ثم اتفاق صفاتها الخلقية , وميولها الفنية من جهة ثانية , فالحرمان نشر ظله البغيض على صلتهما عبر السنين , وأما توافق الطباع والميول فلأن كليهما كانا شاعراً مفتوناً بالأدب والموسيقا والغناء , وكانا عزيزيّ النفس , قوييّ الشخصية , طموحين فضلاً عن تقاربهما في السن ؟, فليس غريباً أن تعقد أواصر الحب بينهما .
ويبدو أن العاشقين المرموقين قد حرصا على التكتم والتصوّن لدى ولادة حبهما , وهذا ما يبدو لنا جلياّ في
قول ابن زيدون :
أصونك من لحظات الظنون وأعليك من خطوات الفكر
وأحذر من لحظات الرغيب وقد يستدام الهوى بالحذر
غير أن العاطفة المشبوبة التي ربطت بين الشاعرين الوجيهين في المجتمع القرطبي ما لبثت أن عرفت , وهل يخفى الحب , رحم الله أحمد شوقي القائل :
فالصبّ تفضحه عيونه ونتمّ عن وجد شؤونه
كما أن أشعار ابن زيدون الغزلية التي أصبح يرسلها القصيد تلو القصيد, وانتشرت و درجت على ألسنة الناس وأخذ يرددها المعجبون والرواة فلقد كان ابن زيدون إذا ما ألحّ عليه الشوق , يعبر عنه بأبيات بليغة عذبة :
يا ليت ما لك عندي من الهوى لي عندك
سلني حياتي أهبها فلست أملك ردّك
و الدهر عبدي لما أصبحت في الحب عبدك
وقد استجابت ولادة لنداء قلبها , وكتبت إليه تقول :
ترقّب إذا جنّ الظلام زيارتي فإني رأيت الليل أكتم للسر
وبي منك ما لو كان بالشمس لم تلح وبالبدر لم يطلع وبالنجم لم يسر!
وعلى الرغم من وسائل الحذر جميعاً ذاع أمر عشقهما بين الناس حتى أن شاعرنا العاشق أخذ ينظم القصائد الغزلية بالعشرات وبدون تكتّم معبراً عن فخاره بحبه ومحبوبته ومنها قوله :
يا من غدوت به بالناس مشتهراً قلبي عليك يقاسي الهمّ والفكرا
وقد غضبت ولادة من هذا الإعلان , واعتبرته أقرب إلى التشهير منه إلى التجميد فاعتذر منها ابن زيدون اعتذاراً ما أظنّ أن شاعراً جاء بمثله في شدة الحرص على احترام العاطفة وفي حسن التعبير عن لواعج الهوى , غير أن هذا الاعتذار لم يكن مقبولاً عند ولادة لأن خصوم الشاعر ومنافسيه استغلوا الفرصة السانحة أبشع استغلال , فأوغلوا صدرها عليه ولم يكفوا عن إذكاء حفيظتها حتى بلغ استياؤها منه مبلغه , وجعلوها تنظر إليه بأعين جديدة أخذت ترى فيه الصلف والغرور والأنانية والعقوق ولا سيما عندما يخامرها نقده لشعرها, فصدت عنه صدوداً مفاجئاً عنيفاً لم يكن مستحقاً , وقصة إعجابه بجاريتها "عتبة " قصة عابرة ضخّمها خيال ولادة وغضبها , وذلك أن الوزير الشاعر طلب من عتبة في ليلة أنس وطرف أن تعيد غناء لحن أعجبه , وقد فاته أن يستأذن مولاتها في الأمر لذا احتدت ولادة وانسحبت من المجلس بعد أن ضربت جاريتها عتبة مؤنبةً .
وشعر ابن زيدون بذنبه فحاول الاعتذار بشتى الوسائل , ولكن ولادة لم تغفر لحبيبها تطاوله عليها بالضرب ولم تعذره فكان غضبهما بداية فساد الصلة بينهما , وما زاد الأمر إلا صعوبة وجود الحساد والمفسدين الذين نشروا المطوي من علاقة ابن زيدون بولادة كما أن كبرياء ولادة جعلها تستاء أن ترى حبيبها يتمادى مع جاريتها وينسى قواعد الأدب أضف إلى ذلك غيرتها التي كانت تأكل صدرها .
وعندما علم ابن زيدون بأن خصمه الوزير ابن عبدوس خطب ولاة لنفسه اغتاظ أيما غيظ , وتألم أيما ألم ولكنه وجد متنفساً لكربه واستيائه في تدبيج رسالة مطوية بعث بها إليه على لسان ولادة عرفت بالرسالة الهزلية التي يقول في بدايتها : ( أما بعد أيها المصاب بعقله المورط بجهله , البين سقطه , والعاثر في ذيل اغتراره الأعمى في شمس نهاره , المتهافت تهافت الفراش على الشهاب )
وقد نجحت الرسالة الهزلية في بلوغ هدفها المنشود لأنها سرعان ما ذاعت بين الناس ووضعت ابن عبدوس موضع الفكة والتندر مما أرغمه على الانقطاع عن زيارة ولادة . ودفعه إلى تحاشي الظهور بين الناس , ولكن ابن زيدون دفع ثمنها غالياً, لأن خصمه انصرف إلى إعداد مخطط مؤامراته و وضعه في حيز التنفيذ , فأفلح في تلفيق تهمة دنيئة ألصقها به إذ اتهمه باغتصاب عقار في قرطبة ثم حمل الحاكم ابن جهور على تصديقها و وضعه في السجن .
لقد طالت أيام ابن زيدون ولياليه الموحشة في السجن , فقرر أن يهرب بمساعدة صديقه أبي الوليد , وكان له ما أراد فذهب إلى إشبيلية حيث لقي من أميرها المعتضد أحسن تكريم , ومن هناك أرسل رسالة إلى المحبوبة ولادة , وبعدها انتقل إلى ضاحية الزهراء بالقرب من قرطبة متخفياً طمعاً بصفح ولادة ورؤيتها فكتب لها الأشعار .
وفي ظلال المعتضد بقي ابن زيدون عشرين عاماً أوكل إليه المعتضد أرفع المناصب بأن جعله وزيراً ومستشاراً له , ولي بعدها ابنه المعتمد على الله الحكم وكانت بينه وبين ابن زيدون أوثق صلات المودة والوفاء ,إذ كان قد تتلمذ على شاعرنا وهو ولي للعهد , وتدرب عليه في صياغة الشعر